لم تكتفي الرياضة بصراع المباريات وفوز وخسارة أحدهم فقط، بل كانت دائما مرآة تعكس صراعات أعظم، تلتقي السياسة بالرياضة في أوقات فارقة، تتحول فيها الملاعب لساحات حرب، وتصبح فيها المباريات أكثر من كونها مجرد أرقام؛ بل نقط تحول غيرت مصائر دول، وأعادت تشكيل خريطة العالم.
مباريات لم يحسم فيها الفوز والخسارة داخل المستطيل الأخضر فقط، بل امتدت لساحات تقول فيها الحروب كلمتها، وتطلق هي صافرة نهاية المباراة، بعد أن أطلق بدايتها الحكم.
“مباراة الموت “
بين ثنايا الحرب العالمية الثانية، مباراة كره قدم تبدأ الساعة السابعة مساءًا ٢٢ يونيو – ١٩٤١ ، بطولة الاتحاد السوفيتي التي لم تُلعب.. من المتعارف عليه أن مباراة كرة القدم تبدأ بـ ١١ لاعب لكل فريق، إلا أنها خالفت الواقع ودارت أحداثها بين طائرات وقذائف ومدافع؛ ليعلق المعلق الإذاعي الشهير “فاديم سينياسكي” على الحرب بدلًا من كرة القدم :” المدافع المضادة للطائرات تصيب! تلك تمر .. القذائف تنفجر في السماء أعلى بكثير من الطائرات، يبدو أنها تصيب.. لا.. تمر مرة أخرى! “، ذلك كان حال الرياضة خلال الحرب العالمية الثانية وأكثر..

عندما أقيمت مباراة حقيقة بين فريق “ستارت” المكون من لاعبين سابقين في “دينامو كييف”، وفريق من الجنود الألمان؛ أطلقوا عليها “مباراة الموت”.
عام ١٩٤٢م، وأثناء احتلال النازيين لأوكرانيا، هزم فريق “ستارت” فريق الجنود الألمان بنتيجة كاسحة رغم التهديدات، دفع اللاعبون الأوكران الثمن؛ إذ تم اعتقال بعضهم وقتل آخرين بعد أيام من المباراة، لتخلّد مباراة كرة قدم لأول مرة في سطور التاريخ على أنها مقاومة حقيقة للاحتلال، قاوموا الاحتلال بأقدامهم قبل أرواحهم.

“حرب كرة القدم في يوغوسلافيا”
عانت يوغوسلافيا من أزمات اقتصادية وسياسية في أواخر الثمانينات، تنازعت جمهورياتها المختلفة، وكانت كرواتيا وصربيا في الطليعة، توترات سياسية وعرقية أدت لاحقًا إلى تفكك يوغوسلافيا.

١٣ مايو ١٩٩٠م، شهد ملعب “ماكسيمير” مباراة تاريخية بين “دينامو زغرب” الكرواتي و “النجم الأحمر” الصربي، وعلى إثر الخلاف المشحون والتوترات؛ اعتبرت هذه المباراة بمثابة مواجهة بين القومية الكرواتية والصربية.
قبل بدء المباراة اندلعت اشتباكات بين جماهير الفريقين، قاد مجموعة مشجعي النجم الاحمر “أركان” زعيم رابطة ألتراس النجم الأحمر المعروفة بـ “ديليا” ، ويعد “أركان” أحد أخطر مجرمي البلقان ومطلوب دوليًا لارتكابه العديد من الجرائم.

هتف الألتراس بعبارات استفزازية مثل “زغرب صربية”، فغضبت الجماهير الكرواتية وتطورت الأحداث لأعمال شغب في المدرجات؛ مما استدعى تدخل الشرطة لفض النزاع.
هاجم لاعب دينامو زغرب “بوبان” أحد رجال الشرطة؛ احتجاجًا على ما اعتبره استخدامًا مفرطًا للقوة ضد الكروات، أصبحت صورته وهو يركل الشرطي رمزا للمقاومة الكرواتية ضد سلطة يوغوسلافيا المركزية، وعرفت فيما بعد بـ “ركلة الاستقلال”.

بعد عام واحد فقط وتحديدًا ٢٥ يونيو ١٩٩١م، أعلنت كرواتيا وسلوفينيا استقلالهما؛ مما أدى لاندلاع حروب يوغوسلافيا التي استمرت طوال التسعينات، وأسفرت عن مئات الآلاف من الضحايا وتغيرت على إثرها خرائط الدول.
“ديربي الموت”
بين الفقر في الهندوراس والاستقرار في السلفادور، وبين الهجرة من الهندراس إلى السلفادور لعدم توفر الاراضي الكافية تلبية احتياجاتهم في الزراعة، واستقبال السلفادور لحوالي ٣٠٠ ألف مهاجر بما يعادل عشر سكان البلاد، بتلك الفروقات الإقتصادية والجغرافية توترت العلاقات وشهدت عده تصاعدات.

إلى أن أتت تصفيات كأس العالم ١٩٦٩م، القشة التي قصمت ظهر العلاقات المتوترة بين السلفادور والهندوراس، مباراة فاصلة لتحديد المتأهل لكأس العالم ١٩٧٠م، وفاصلة أيضًا في صراع البلدين الدبلوماسي.
٨ يونيو ١٩٦٩م، خسر السلفادور بنتيجه ١-٠ بعد ما تعرض لمضايقات من الهندوراس تعكس مدى توتر العلاقات.
وبمباراة الإياب يوم ١٥ من نفس الشهر، عاد السلفادور لينتقم، أولًا من خسارة مباراة الذهاب وثانيًا من المضايقات التي تعرض لها فريقه، فاز السلفادور بنتيجه ٣-١ وشهدت البلاد أعمال عنف ضد الهندوراس نتج عنها غلق الحدود بين البلدين.

انتهت التصفيات بتأهل السلفادور وتأكدت عبارة أن ساحة الرياضة يمكن أن تتحول لميدان حرب؛ حيث اندلعت الحرب بين البلدين بعدما أعلنت السلفادور قرار الحرب من جانب واحد لغزو الهندوراس، استمرت الحرب أربعة أيام، قتل خلالها ٣ آلاف شخص، وأصيب ١٥ ألف شخص وتشرد أكثر من ٨٠ ألف، من مباراة كرة قدم لمناوشات حدودية قُطعت خلالها العلاقات الدبلوماسية تمامًا وراح ضحيتها الآلاف.
في العادة تنتهي المباريات بصافرة الحكم، يعود اللاعبون لغرف خلع الملابس وتغادر الجماهير المدرجات؛ إلا أنه في لحظات أخرى تكون الصافرة صافرة إعلان الحرب خارج أسوار الملاعب. تلك التي وُجدت للمتعة وتوحيد الشعوب؛ تصبح في بعض الأحيان سلاحً سياسيًا وتتحول فيها الملاعب لساحات حرب، لتثبت أنها ليست مجرد لعبة، بل لغة يكتب فيها فصول السياسة بدم الرياضيين وعرقهم وتنافسهم السلمي.. وللحديث بقية.